د. الفيضي: المتطرفون الغربيون هم سبب التطرف الديني ولو تركونا وشأننا لم ينشأ في بلادنا

الحلقة الخامسة: التطرف الديني ظاهرة خطيرة
الشيخ د. محمد بشار الفيضي الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق

( المتطرفون الغربيون هم سبب التطرف الديني ولو تركونا وشأننا لم ينشأ في بلادنا ) س / كيف يمكن للإسلام - من منطلقاته الصحيحة والجوهرية - الدفاع عن ثوابته أمام التطرف الديني في هكذا ظروف كلفتنا الكثير من الدماء؟ ج / التطرف الديني ظاهرة خطيرة لكن من وجهة نظري فالمسلمون أنفسهم لم يقفوا وراء نموها، بل كان من أوجدها وسعى في إنمائها الغربيون ممن يحملون التطرف الديني، فقد عملوا منذ مدة ليست بالقصيرة على مصادرة ما يمتلكه المسلمون من معطيات ومصادرة حرياتهم في إسقاط هذه المعطيات على واقعهم، ووصل الأمر بالغرب إلى حد التدخل العسكري في البلدان الإسلامية تحت ذرائع غير مقنعة وبعد مسيرة طويلة من التدخل الثقافي والاجتماعي عبر حكومات تواطأت معهم أو منظمات أو غير ذلك. هذا الفعل السيئ ولد فعلاً سيئاً آخر في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن التطرف الديني الغربي هو من أوجد في بلادنا التطرف الديني الشرقي والقاعدة الفيزيائية تقول لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وأنا أعتقد لو أن الغرب تركنا وشأننا نختار لحياتنا ما نحب لم ينشأ في بلادنا أي تطرف ديني. س / هنالك فهم دولي خاطئ تجاه ديننا الحنيف، فمنهم من يتهم الإسلام بالإرهاب، وهنالك أيضاً دعاة من أجل نشر فضيلة الدين إلى كل بقاع العالم، ولأن ديننا بريء من كل الدماء التي أزهقت بالباطل, فما هو تعليقكم من أجل فهم الدين بأنقى ما نريده كي يفهم من يريد بهذا الدين الأذى؟ ج / ليس في ديننا الحنيف أي معنى من معاني الإرهاب. والمتأمل في تشريعات هذا الدين لا يجد عناء في فهم ذلك. يكفي أن الإسلام أباح للمرء حرية المعتقد والتدين مع وجود أديان فيها كفر وشرك كما في قوله تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ). كلمة الإرهاب - بمعنى مصدر الأذى للآخرين - كلمة صنعها الغرب وسخر آلاته الإعلامية الضخمة لترويجها إلى الحد الذي قلبت فيه الموازين، فنجد رئيس حكومة كشارون يقتل يومياً من المدنيين والأطفال والنساء ما يشاء ويهدم بيوتهم ويسمي ذلك حرباً على الإرهاب في حين يوصف من يدافع عن أرضه ويعمل لإخراج المحتل بأنه إرهابي. هذه الكلمة أعني الإرهاب أصبحت ممجوجة لدى الذوق العام بسبب التطبيقات السيئة والمتناقضة لمن وضعها. س / كيف نعالج المفاهيم التي مررت من خلال التدليس المتعمد ضد هذا الدين؟ ج / لن نجازف بالقول إن التطرف الديني لا وجود له في بلاد المسلمين، فهذا مجانب للصواب، هنالك تطرف ديني سببه كما بينا تطرف ديني طرأ علينا من جهة الغرب. ونحن المسلمين نرفض التطرف الديني بكل أشكاله سواء أكان في بلاد الغرب أم في بلاد المسلمين ونعمل على احتوائه وانتزاع عوامل تأجيجه. ولكن المشكلة أننا من الممكن أن ننجح في جوانب من خلال جهودنا في التوعية الإسلامية وكشف الغشاوة عن المبتلين بهذا المرض، ولكننا في جوانب أخرى سنخفق؛ لأنها متعلقة بأسباب لا نملك قطعها، فلسنا نملك القدرة في هذه المرحلة لنقطع دابر التدخل الغربي في شؤوننا وخصوصياتنا على مستوى العالم الإسلامي، وما دام هذا التدخل قائماً فإن التطرف يبقى نامياً. ولذا فأنا أقول دائماً إن الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة الزمنية هي من رعت الإرهاب وأنمت غراسه في العالم بسبب سياساتها الخاطئة وحقدها على معطيات ديننا التي مثلت فيها الذروة على عهد الرئيس الحالي جورج دبليو بوش. س / بماذا تنصح المسلمين في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الأمة الإسلامية؟ ج / أنا أتوجه بالنصح أولاً إلى من يمارس التطرف الديني في بلادنا أن لا ينزلق إلى أسلوب رد الفعل، وأن يتعامل منطلقاً من ثوابتنا الدينية؛ لأن رد الفعل غالباً ما يكون خارجاً على هذه الثوابت وتتحكم فيه النوازع البشرية. ويجب أن لا ننسى أن رسالتنا الإسلامية خالدة، ويجب أن نعمل على بقائها خالدة، والتصرف برد الفعل يضر بهذا الخلود، لو تذكرنا فتح مكة حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم منتصراً ووقف أمام أعدائه وهم أذلاء كان بمقدوره أن يصدر أمراً بالإشارة ليقتل كل أعدائه ويجعل من باحات مكة مذابح للرجال، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يتصرف برد الفعل وهو النبي المعلم، بل عفا عن أعدائه وكأنهم لم يؤذوه ووهبهم الحرية وكانوا يتمنون الحياة ولو أرقاء. وبهذه الخطوة النبوية بدأت لحظات الخلود بالرسالة الإسلامية، ولو أنه عليه الصلاة والسلام أعمل فيهم السيف لم يكن الإسلام ليبسط ذراعه على طرفي العالم، وهكذا ينبغي أن نكون فالتطرف الديني يلحق بنا خسائر أضعاف ما يلحق بأعدائنا. س / بماذا تنصح الشباب المسلم في عصر الشبكات العنكبوتية التي من جوانبها السلبية النيل من القيم والأخلاق؟ وكيف السبيل لإخراجه من عتم الثقافات المستوردة؟ ج / لم يعد بالإمكان في هذه المرحلة العيش بمعزل عن العالم، والذين كانوا يفتون بحرمة التلفاز وأجهزة الإعلام الأخرى لم يعد الناس يلتفتون إلى فتواهم لعموم البلوى، لذلك لا بد من التعامل مع هذه الظاهرة بحكمة لا سيما وأنها سلاح ذو حدين بقدر ما فيها من تدمير يمكن أن يكون فيها خير، وهذه مهمة جيلنا الجديد أن يقتحم هذا العالم بثقة ويحسن استخدامه لخدمة دينه ووطنه وذاته. وأنا شخصياً لم أعد أخشى كثيراً من الثقافات المستوردة؛ لأنه بعد الحرب على العراق كشفت النوايا وتبينت للعالم الإسلامي على اختلاف مستويات أبنائه أن وراء هذه الثقافة نفساً استعمارياً خطيراً، ولذا بدأ الضعف يدب في التعامل مع هذه الثقافة. والفرصة سانحة لإيجاد البديل الذي يسد حاجة مجتمعاتنا ويرضي تطلعاته، وهذه كما قلت مهمة جيلنا الجديد. س / هنالك صدى لجريدة البصائر التي تديرها لما تحتويه من مواضيع تخدم الجيل وتطور - حسب منهج الدين - السياسة. وكذلك تخلق توازناً معرفياً بين واقعية الحياة والالتزام، وهذا ما يشدنا للتمحيص في هذه المباحث التي تعبر عن رؤية مفتوحة باتجاه الخير. هل ستفتح منافذها على العالم الإسلامي كتعميم يخدم المرحلة؟ ج / بالنسبة لجريدة البصائر لست من يديرها بل أعمل مستشاراً فيها، وهي تنطق بلسان حال هيئة علماء المسلمين هذه الهيئة المباركة التي تأسست فور سقوط النظام السابق، وعملت على سد النقص السياسي والديني والإداري في مجتمعنا. والبصائر كانت منها خطوة في هذا الاتجاه، لذلك - على ما أظن - ستبقى في هذه المرحلة قطرية، ولن تخرج عن مواصفات المرحلة التي تتمتع بها الآن؛ لأنها بصدد تأدية واجب معروف، ويوم ينتهي الاحتلال وتعود للبلد حريته وسياسته فمن الممكن للبصائر أن تفتح منافذها على العالم الإسلامي. س / بماذا تنصح المسلمين في العراق والديانات الأخرى؟ وهل ترى المستقبل بعين البصيرة تجاه هذا البلد الذي يريد خير البشرية جمعاء؟ ج / أنا ابتداء قلت أكثر من مرة إنني متفائل بمستقبل العراق، ولدي يقين بأن العراق - وقد أراد له أعداؤه أن يكون نكسة للعالم الإسلامي - سيكون سبباً للنهضة في هذا العالم، ووقائع الأحداث بدأت تبشر بذلك، والولايات المتحدة الأمريكية اليوم في وضع لا تحسد عليه، ودخولها إلى العراق وما جرّ ذلك عليها من تداعيات جعلها اليوم على حافة من الانزلاق إلى الأفول بدأ عده التنازلي. لذلك فإن المطلوب من أبناء العراق على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم أن يعوا أهمية المرحلة التي يمر بها بلدنا وعظم المهمة المناطة بأبنائه، فهم مرشحون في تقديري لقيادة العالم العربي والإسلامي قيادة فكر وتجربة ونهضة، وعليهم أن يؤدوا هذا الدور بأمانة، وبطبيعة الحال لا يمكنهم النجاح ما لم يعملوا كاليد الواحدة. وأنا أشبه العراقيين دائماً بحزمة الضوء التي تضم ألواناً زاهية لا تبدو للناظر إلا حين ينكسر شعاعها ويتم تحليله إلى عناصره الأولية، فالعراق جميل بتعدد أطيافه أدياناً ومذاهب وقوميات. س / ماذا تعني السيادة الآن من وجهة نظر الشريعة؟ وهل هي فعلاً سيادة كاملة كما يشاع؟ وما السبيل لجعلها سيادة كاملة؟ ج / لا يختلف اثنان على أن عراقنا اليوم لا يتمتع بسيادة، وأن الاحتلال لم ينقطع عن هذه الأرض سوى أنه انتقل من صورة إلى صورة. لا يمكن لشعب أن ينال الحرية والسيادة وعلى أرضه 150 ألف مقاتل مدججون بالسلاح يقطعون البلاد طولاً وعرضاً ويملؤون سماءه بالطائرات المقاتلة. ما زلنا رهن الاحتلال، والحكومة الحالية منبثقة منه، ولا أظنها ستحل المشكلة، بل ربما إذا لم تحسن التصرف فستزيد السوء سوءاً والطين بلّة. السيادة تكون للبلد يوم يحكم نفسه بنفسه ويختار دستوره بإرادته ويتصرف بثرواته وفق مصالحه ولا يقف على أرضه غير أبنائه، وأي غض من هذه المعاني مكابرة لا قيمة لها والأمريكيون واهمون جداً حين ظنوا أن فكرة هذه الحكومة ستقنع العراقيين. س / هل من المؤمل أن تخرج قوات الاحتلال وتدع العراقيين يديرون شؤونهم بأيديهم أو ستبقى تماطل بالحجج؟ وبماذا تنصح القادة المدنيين الجدد الذين تسنموا سلطة العراق كأمانه في أعناقهم؟ ج / ابتداء من الممكن أن تخرج قوات الاحتلال وليس ذلك مستحيلاً، ولكن ما يجب أن يعرفه الجميع هو أن قوات الاحتلال لن تخرج حتى تيأس من قدرتها على البقاء، فلقد أنفقت أموالاً باهظة في سبيل احتلالها العراق، وفقدت الآلاف من جنودها، ولن تخرج بسهولة، لكن يوم تشعر أن بقاءها سيجعلها تخسر المزيد من الأموال والمزيد من القوات، وأنه لا أمل في تغيير هذه المعادلة فإنها ستخرج حتماً وإن اقتضى ذلك خروجها على حين غرة كما حدث في الصومال، وأنا لا أظن أن الحكومة الحالية تغيب عنها هذه الحقيقة، ولكن ليس النجاح في الفهم وحده بل بالقدرة على توظيف هذا الفهم لمصلحة العباد والبلاد. س / ما دور هيئة علماء المسلمين التي استحدثت أخيراً في خلق توازن إيجابي بين مختلف القوى السياسية والأطياف الدينية في العراق؟ وهل هناك تيار سياسي أو تمثيل للهيئة في الحكومة الجديدة؟ ج / هيئة علماء المسلمين منذ نشأتها عملت في ثلاثة اتجاهات: الأول: وكان الأهم في بداية نشوئها العمل على نزع فتيل الطائفية من خلال التواصل مع المراجع الدينية من كل الأطياف وفتح الحوار العقلاني وإصدار الفتاوى المشتركة لبيان حرمة دماء أبناء الوطن. والاتجاه الثاني: رعاية المساجد التي فقدت مع مطلع الاحتلال الإدارة المؤسساتية لرعايتها. والاتجاه الثالث: التثقيف ضد الاحتلال وبيان نواياه وأهدافه الخطيرة. وهي لما تزل تعمل في هذه الاتجاهات الثلاثة، وإن كان عملها في الاتجاه الثاني ضعف لسبب تشكيل ديوان للأوقاف يتولى شؤون المساجد. ويجب التنبيه هنا إلى أن هيئة علماء المسلمين ليست حزباً سياسياً ولا حركة سياسية إنما هي مرجعية دينية، وقد اضطرت في كثير من الأحيان إلى الوقوف مواقف سياسية بسبب خلو الساحة من المعارضة السياسية وانخراط كثير من الأحزاب الوطنية ومنها الدينية في الجانب المسالم لقوات الاحتلال. أما بالنسبة للتمثيل في الحكومة الجديدة فقد بينت الهيئة موقفها أكثر من مرة بهذا الصدد وهي أنها لن تشارك في أية عملية سياسية تقوم في ظل الاحتلال، وهذا مبدأ لا يمكن التنازل عنه. س / كلمة أخيرة موجهة إلى أبناء المسلمين وشبابهم في العراق؟ ج / أنا أذكرهم بحقيقة يؤمن بها كل إنسان في العالم وهي أن الاحتلال مرّ وأن الحرية والسيادة حق، وعليهم أن لا يقبلوا بالمرّ على حساب الحق مهما كان الثمن غالياً، وهذه الكلمة ليست موجهة إلى المسلمين في بلادنا فحسب بل إلى كل عراقي وعراقية. أجرى الحوار: الشاعر والصحفي عبد الكريم الكيلاني