في ذكرى استشهادك ... نخط سطور الوفاء بدموع المحبة: أبو عبد الله الخطيب

  • شخصيات
  • 6728 قراءة
  • 0 تعليق
  • الثلاثاء 29-05-2007 08:42 مساء

الحمد لله الذي أنارَ الوجود بطلعةِ خير البرية ، سيدنا محمدٍ عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكى التحية ، وخصَّ أصله الفاخر ونسله الطاهر بالإسرار الإلهية ، فكانوا حصناً حصيناً لأهلِ الأرض وللدين حماة ... اللهم ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك سبحانك لا نحصي ثناءً عليك ، أنتَ كما أثنيت على نفسك ... أما بعد : ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي أفل نجمٌ من سماءِ البصرةِ الفيحاء ... كان يضيء على أهلِ بلدتهِ ، يذكّرهم بسيرتهم المشرقة ، ومواقفهم المشرّفة ، وتاريخهم المجيد والحافل بالأصالةِ والتآخي والتسامحِ والتعاطف ... في مثلِ هذه الأيام سقط شهيدُ الكلمة الصادقة ، التي كانت تهز أعواد المنبر لقوتها ، والتي طالما كررها قائلاً : (( لو هاجر كلُ أهالي البصرة فسأبقى فيها ولن أغادرها إلا شهيداً )) ... تلك الكلمة النبيلة التي لم ترُق لمصاصي الدماء ، فاغتالوا صاحبها بعد أن أودعو صدره رصاصات الظلم والغدر ؛ ليُزفَّ شهيداً ، ولسان حاله يقول : لقد صدقنا أهلنا عندما قلنا لهم (( إننا لن نخرج وإن كانت دماؤنا ثمناً لذلك )) !! فرحمك الله يا أبا محمد رحمة واسعة ... رحمك اللهُ يا أيها الجبلُ الأشم ، وأسكنك فسيح جناته ورضوانه . إنَّ الْخُلُودَ لِمَنْ يَمُوتُ مُجَاهِداً لَيْسَ الْخُلُودُ لِمَنْ يَعِيشُ جَبَانَا الحق أقولُ : أنني لا أعرف تفاصيل حياة الرجل الشهيد ، ولم أجلس معه عن قربٍ ، وإن كنتُ رأيته مرات في أماكن مختلفة بين كلية الإمام الأعظم في الأعظمية المسورة ضمن رحاب جامع أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه ، ومرات في المقر العام لهيئة علماء المسلمين في العراق في رحاب جامع أم القرى بمدينة السلام (بغداد) حرسها الله تعالى من شر الاشرار وكيد الكفار . ومع كلِ هذا أجد الفضول يتمالكني ، وأجد نفسي ملزماً أن اكتب هذه السطور ، ولسان حالي يقول : ولا تكتبْ بكفكَ غير شيءٍ ** يسركَ في القيامةِ أن تراهُ !! وأحسُّ وكأنني عشت مع الرجلِ سنين ، ولا عجب في ذلك ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (( أنَّ الأرواح جنود مجندة ، ما تعارفَ منها أئتلف ، وما تناكر منها اختلف )) ... ولعلَّ هذا من تمازج الأرواح في الغايات النبيلة والإيمان العميق المشترك المتجسد بحب هذا البلد الذي يتعرضُ اليوم لانتكاسةٍ كبيرةٍ بعد أن غزته جيوش الظلم والإلحاد ، فاحتلت أرضه ، وعاثت في مقدراته وخيراته وأهله فساداً .. وحسبي وأناملي تخط هذه الكلمات أنني أحب هذا الشهيد السعيد في الله ، فقد ضحى بنفسه وجاد بروحه الطاهرة من أجل إعلاءِ كلمة الله تعالى ، والبوح بالحق والصدق ؛ دفاعاً عن كرامته ، وكرامةِ أهلهِ ومحبيه ... * * * فقيدنا الشهيد هو : الشيخ الدكتور يوسف يعقوب محمود أحمد الحسان ، ولد - رحمه الله تعالى – في البصرة الفيحاء عام 1966م ، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة ، ليلتحق بعدها بمعهد الدراسات الاسلامية في بلدته ، ليتخرج منه ويشد رحله حيث كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد عام 1986م ، وتخرج منها بعد أربع سنين قضاها متعلماً وحريصاً على تلقي العلوم من المشايخ والدعاة في بغداد . وقد عيّن الشيخ الفقيد إماماً وخطيباً قبل أن يتخرج من كلية الشريعة بسنة وذلك في عام 1989م ، حيث لازم الإمامة والخطابة في جامع العرب في البصرة ، لينتقل بعدها إلى جامع البصرة الكبير عام 1994م ، وكان أول شاب يعتلي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البصرة ، مما أعطى دفعةً قويةً لدى الشباب في طلب العلم واعتلاء المنابر . تعود مسيرة الفقيد العلمية إلى بداية حياته ، حيث بدأ محباً للعلم منذ أن كان طالباً في المرحلة المتوسطة ، وكان يرحل في العطل الصيفية إلى أربيل وبغداد طلباً للعلم ... وقد أخذ العلم عن عدد من كبار المشايخ ، وكان من أوائل من تعلم منهم ودرس على أيديهم الشيخ العلامة عبدالمجيد شقلاوة في أربيل ، مع ملازمته لدروس العلامة الكبير الشيخ عبد الكريم بيارة ... ودرس الفقه أيضاً على يد العلامة الشيخ أيوب الخطيب في سامراء ، ودرس أيضاً على يد الشيخ عبد الكريم الدبان والشيخ عبد العزيز الأربيلي في البصرة ، والشيخ مخلص الراوي في بغداد رحمهم الله جميعاً ... وقد نال فقيدنا الشهيد الإجازة العلمية من الشيخ عبد الكريم بيارة عام 1997م ... وللشيخ رحمه الله دور كبير في تأسيس أهم الصروح الإسلامية العلمية التي تخرج اليوم كواكب من طلبة العلم وحملة الشريعة ، فقد عمل على تأسيس مدرسة الإمام الحسن البصري الدينية ، وتم له ذلك بفضل الله تعالى عام 1992م ، وعمل مديراً لها ، وعمل على تأسيس كلية الإمام الأعظم ، وتم له ذلك بتأسيس قسم الدعوة والخطابة في البصرة ، وظل متواصلاً في جهده العلمي في رحاب هذين الصرحين حتى شهادته رحمه الله تعالى . كان فقيدنا محباً للعلم ، وكان شعاره ودثاره : (( اطلب العلم ليتعمق الإيمان في النفوس )) ، وفي الوقت ذاته كان محباً لطلبة العلم والمشايخ والصالحين ، وكان يزورهم ويتفقدهم ، يقول الشيخ متحدثاً عن تجربته – كما ينقلها بعض الكاتبين - : (( كنتُ لا أفكر إلا بالدرس ، وكان شيخي عبد الكريم بيارة – رحمه الله – لا يقرب أي طالب ، ولا يدرّس أياً كان ، فلما رأى مني ذلك صرت مقرباً عنده ، وكان يحبني كثيراً )) . ويقول بعض زملاء الشيخ وأقرانه : (( كان يوسف من أكثرنا جديةً والتزاماً بمواعيد الدروس ، وكان يمشي المسافات الطويلة على قدميه ؛ من أجل الوصول إلى حلقة الدرس في الموعد المحدد .. وكنا نخوض مع الخائضين ، وكان الشيخ منغمساً في التحضير والمراجعة والمذاكرة ؛ فبرز من بيننا )) ... وقد حصل الشيخ الفقيد على درجة الماجستير في عام 1998م ، وحصل على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها في عام 2004م ... وكان رحيماً ، عطوفاً ، كريماً ، عزيز النفس ، عنده روح التحدي والثبات ، وربما كانت هذه الصفات سبباً في إثارة الأحقاد عليه من النفوس الحاسدة والمرتزقة ... وكان يكثر من الذكر وقراءة القرآن ، وكان يوصي طلابه وأحبابه بالتزام سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والموت على عقيدة السلف ... وكان في غاية الأدب مع المخالفين له في الرأي ، مهذباً في حواره ومناظرته ، وكان يحتدُّ - أحياناً – إذا عانده الطالب أو المخالف ، ثم ما يلبث أن يبتسم ويلطف أجواء التعلم رحمه الله . وكان الفقيد متوازناً معتدلاً محباً لجميع المسلمين ، حريصاً على وحدة العراق ، أرضاً وشعباً ، وكان من أشد الناس بغضاً للطروحات الطائفية المقيتة ، وكان يتحفظ على الطروحات التي تدعو إلى تقسيم العراق كالفدرالية وغيرها ... وكان الشيخ يسعى لإيقاف نزيف الدم العراقي الذي يتعرض له أهل السنة في البصرة من خلال علاقاته الواسعة والمتينة مع قيادات بقية الطوائف الأخرى ، ودائماً ما يكرر قوله تعالى (( إدفع بالتي هي أحسن )) . أما علاقته بهيئة علماء المسلمين فقد كانت مبكرة جداً منذ الأيام الأولى على تأسيسها ، ويقول الدكتور فهمي القزاز – الأستاذ بكلية الإمام الأعظم وعضو مجلس شورى الهيئة - : (( جاء الاحتلال البغيض فزاد هماً لأخي يوسف مع همه ومسؤولية أكبر فاتصل بي بعد الاحتلال بأيام قليلة ماذا نعمل فدعوته للحضور لأمر هام بداية تشكيل هيئة علماء المسلمين في العراق أفراداً قلائل حملوا همّ العراق فكان شغلهم الشاغل . وصل يوسف الحسان وتعرف على الهيئة وبرامجها فقال قولته المشهورة: (( لا يمثلنا إلا هيئة علماء المسلمين )) فكان من روادها وحمل شعارها إلى البصرة حتى كان عضوا بارزاً في أمانتها العامة ومسؤولاً عن الجنوب كله ، يجمع الكلمة ولا يفرق وشعاره في الجنوب (( آل بيت النبي وصحبه رواقم الصدع وروافد النصر وشواهد العصر )) على هذا عاش أخي الحبيب ومن أجل هذا قتل )) . لقد كانت مواقف شهيدنا رحمه الله تستحق أن تكتب في صفحات التاريخ بمداد من ذهب ، وكان قد صدع في آخر حياته بكلمات الحق التي كان لابد من الصدع بها ، وقد كرر في خطبه الأخيرة القول بـ (( إنَّ أجهزة الأمن ضالعة ، ضالعة ، ضالعة في عمليات الاغتيالات ضد أهل السنة في البصرة )) ، وقد أشار مراراً بأن ذلك المخطط يستهدف إخراج أهل السنة من البصرة ، حتى قال مقولته الشهيرة : (( إننا لن نخرج وإن كانت دماؤنا ثمناً لذلك )) . وفي يوم الجمعة 21 جمادى الأولى 1427هـ الموافق 16/6/2006م قام أصحاب الرذيلة بجرمهم الكبير فاغتالوا الشيخ الفقيد في طريقه متوجهاً لأداء خطبة الجمعة في جامع البصرة الكبير بعد أن اعترضت سيارته سيارتان فيهما مجموعة من القتلة المجرمين ... وقد شيعت جنازته عصر اليوم نفسه ووري جثمانه الطاهر الثرى في مقبرة التابعي ( الحسن البصري ) بمنطقة الزبير . * * * أيها الشهيد : إنه ليعز على كاتب هذه السطور أن تخط يراعه نعيك ؛ بمناسبة ذكرى استشهادك ، ولكن هكذا قضاء الله تعالى في هذه الحياة ... وإنني لأذكِّرُ بأنَّ البصرة قد فقدت نموذج الرجال بفقدك .. فقد كنت رجلاً عظيماً من رجالاتها ، واستاذاً كبيراً من أساتيذها ، ومصلحاً من أعظم مصلحيها ... قضيت شبابك وأفنيت عمرك في خدمة بلدك ؛ فكنت – بحق – مثالاً رائعاً خلقاً وأدباً وورعاً والتزاماً وعلماً ومرابطةً وتقوى ... وإذا كان جسدك الطاهر قد ووري الثرى فإنك لا تزال حياً بين الأحياء بسمعتك الطيبة وذكر محاسنك التي لا تنقطع أبداً ... وكما قال معروف : موتُ التقيّ حياة لا انقطاعَ لها ** قد ماتَ قومٌ وهم في الناس أحياء وقد كان فقيدنا الغالي مفوهاً ناطقاً بالحق ، لا يخافُ في الله لومةَ لائم ، مدافعاً عن حقوقه وحقوق أهله ومحبيه ، أميناً على حفظ الأمانة العلمية والدعوية التي أودعها الله تعالى في شخصه الكريم ... قائداً ، شجاعاً ، ملهماً ، مقداماً . وقد نعته الهيئات والمؤسسات والشخصيات في الداخل والخارج ، وأصدرت هيئة علماء المسلمين بيانها المرقم (278) استنكرت فيه هذه الجرية التي قامت بها المليشيات الطائفية وعصابات الفتنة ، وعقدت مؤتمراً صحفياً بهذا المصاب الجلل . وفيما يلي نص بيان هيئة علماء المسلمين في العراق الذي اصدرته الأمانة العامة في 20 جمادى الأولى 1427هـ الموافق 16/6/2006م : (( الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد : فإنّ القتل قد استحرّ بخيار الناس ومقدميهم ودعاتهم إلى الخير والإصلاح والعدل وبثّ روح الأخوة والمواطنة الصالحة من علماء الدين والأئمة والخطباء وشيوخ العشائر وأساتذة الجامعات والكفاءات العلمية من أطباء ومهندسين وقادة عسكريين وفق خطة مدروسة وبرامج معدة سلفاً وبأدوات السلطة والحكومات المتعاقبة علمت بذلك أم لم تعلم, رعت ذلك أم لم ترعه, خفي عليها أم غضت البصر عنه عمداً واختلقت المعاذير وتحججت بالحجج والذرائع . وها هو شهيد آخر من شهداء الموقف الوطني الملتزم بضوابط الشرع والوفيّ لمقاصده في جمع الكلمة ونبذ الروح الطائفية والنزعة الشوفينية والنفس الإقصائي يلتحق بركب شهداء العراق من المخلصين من كلّ أطياف الشعب ومكوناته, فقد أقدمت عصابة من عصابات الإرهاب الطائفي البغيض ومجموعة غادرة من مجموعات فرق الموت ذات الدعم والتمويل والتدريب من دولة جارة باعتراف أطراف سياسية عديدة في البصرة أقدمت هذه العصابة على اغتيال الشيخ الدكتور (يوسف يعقوب الحسان) عضو الأمانة العامة للهيئة ومسؤول فرع المنطقة الجنوبية فيها ومفتي مدينة البصرة وهو متوجه لأداء صلاة الجمعة في جامع البصرة الكبير مستفيدة من قانون الطوارئ الذي حرم المواطنين من حماية أنفسهم وسهل لفرق الموت حركتها واقتناصها من تريد بأيسر طريقة وأسهل أسلوب وفي التوقيت الذي تريده والمكان الذي تختاره. إنّ هذا الحادث الإجرامي يضع الحكومة أمام مسؤوليتها في حماية أمن المواطنين وقادة المجتمع, ويضع القوى السياسية المكونة لها أمام مسؤولياتهم الشرعية والوطنية والسياسية, ويضعهم في الوقت نفسه على محكّ اختبار جدية برامجهم الانتخابية المعلنة التي على أساسها دخلوا الحكومة وعلى رأسها ردّ الظلم عن المظلومين فإذا بالظلم يستمرّ والباطل يصول. نعم نحن نتفهم لغة الموازنات الواقعية السياسية والالتزامات مع الأطراف الأخرى, ولكننا لا نتفهم السكوت على الظلم والرضا بالحيف وفقاً لقراءات سياسية غير دقيقة ومراعاة لحسابات, بل تحسبات أثبت الميدان مرة بعد أخرى عدم واقعيتها. وعلى الرغم من المصاب فإننا - كما عهدنا أبناء وطننا جميعاً - سنصبر على الآلام ونحتسبها عند الله تعالى فهو نعم الناصر والحافظ ولا نرتجي لرفع المظالم سواه, ولكننا نعاهد الله ونعاهدهم على أن لا نسكت عن الباطل مهما علا نجمه واستوى سوقه فإنكاره والعمل على رفعه أمانة لن نتخلى عنها أبداً . ونعلن أنّ الشيخ قد ذهب ضحية موقفه الموحِّد, فقد كان بالأمس على اتصال مع المقرّ العام للهيئة ليعلمها بإصدار بيان يوصي فيه بالتهدئة وينصح أهالي البصرة بالصبر وتفويت الفرصة على دعاة الفتنة الطائفية مستغلاً الاحترام والتقدير الذي يلقاه من كلّ الأطراف في البصرة على الرغم من الاختلاف في الموقف السياسي. ونوصي أهلنا في البصرة وكلّ مكان من عراقنا النازف الصابر بضبط النفس والتحلي بخصلة الصبر على المكاره وتفويت الفرصة على العدوّين الخارجي والداخلي والتزام الهدوء وتجنب ردود الأفعال العاطفية والأخذ بأسباب الحيطة والحذر واتقاء مواطن القتل الأهوج والرجوع إلى التشاور والتعاضد والتواصل مع الجميع والتواصي بالخير إلى أن يجعل الله لنا من هذه الفتنة الظلماء التي طال ليلها مخرجاً, فهو حسبنا ونعم الوكيل )) .. انتهى نص البيان * * * فرحمك الله يا من كنت شمساً تدور في فلكها كل الكواكب الخيرة من طلبة العلم والائمة والخطباء والدعاة إلى الله ، وأسكنك فسيح جناته ... وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ...